هل التداوي ينافي التوكل على الله؟ وما الفرق بين التوكل والتواكل؟ نعلم أن كل الأمور مقدرة بيد الخالق، فهو الرازق والمانع، إلا أنه يسّر للعباد الأسباب التي توصل بهم إلى دفع كل ضار وأخذ كل نافع، على أن الشفاء بيده سبحانه مهما تعددت الأسباب.. في هذا الصدد يُثار سؤالًا فقهيًا بوسعنا أن نجيب عليه فيما يلي.

هل التداوي ينافي التوكل على الله

أن يلجأ العبد إلى التداوي من الأسقام هذا لا يتنافى مع كونه متوكلًا على الله في خطاه، فلنا في رسول الله أسوة حسنة، وبينما هو إمام المتوكلين نجده يتداوى من المرض ويحث أمته على التداوي، ويأمر المريض من أهله وأصحابه بالتداوي.

ففي حقيقة الأمر، الله سبحانه وتعالى لم ينزل علينا من داء إلا وأرفقه بالدواء، فللمرء أن يبحث عن دواء لسقمه دونما اللجوء إلى المحرمات والعياذ بالله.. وهنا نشمل أدواء البدن والروح والقلب أيضًا، على حد قول الإمام ابن القيم رحمه الله.

الأدلة على أن مباشرة التداوي لا تنافي التوكل

علمنا في جواب سؤال هل التداوي ينافي التوكل على الله أنه لا يعارضه، أما عما قيل في الكتاب والسنة مما يؤكد على ذلك ما يلي:

  • عند عبد الله بن عباس –رضي الله عنه- قال عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (صحيح البخاري).
  • قول الله تعالى في سورة الطلاق: “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)“.
  • عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قال: “ما أنْزَلَ اللَّهُ داءً إلَّا أنْزَلَ له شِفاءً” (صحيح البخاري).

بناءً على ما سبق، فإن التداوي لا ينافي التوكل، حيث إن تناول الأدوية التي سخرها الله لتسبب الشفاء لا ضير فيه، ولا ينافي التوحيد والعقيدة، بل هو أمر أجازته الشريعة وحثت عليه.

هل يمكن للمسلم الابتعاد عن التداوي

ذهب بعض الفقهاء إلى أن التداوي ليس واجبًا، استنادًا إلى قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم في سورة الشعراء: “وإذا مـَرِضْـتُ فَهـُو يَشْـفينِ” الآية رقم 80

لكن في صدد الرد على سؤال هل التداوي ينافي التوكل على الله.. رد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على من يقولون بترك التداوي لأجل التوكل على الله، وقال:

إن التداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفعُ الجوعِ والعطشِ والحَرِّ والبردِ بأضْدادها، بل لا تتمُّ حقيقةُ التوحيدِ إلا بمباشرة الأسباب التي نصبَها اللهُ تعالى مقتضياتٍ لمسبَّباتها قدراً وشرعاً، وإنَّ تعطيلها يَقْدَحُ في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظنُّ مُعَطِّلُها أنَّ تَرْكَها أقوى في التوكل…

… فإنَّ تَرْكَها عجزٌ ينافي التوكُّلَ الذي حقيقتُهُ اعتمادُ القلب على الله في حصول ما ينفع العبدَ في دينه ودنياه، ودفع ما يضرُّه في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطِّلاً للحكمة والشَّرع، فلا يجعل العبدُ عجزَه توكلاً ولا توكله عجزًا“.

بذلك أوجز الإمام إجابة سؤال هل التداوي ينافي التوكل على الله بذكر وجوب التداوي في الحالات الطارئة التي يعد التهاون فيها تهلكة للعبد، فكما أمرنا الله تعالى بألا نلقي بأنفسنا في المهالك، ولا تهاون في درء ما يضر.

كما أنه أشار إلى أن التداوي هو الأخذ بالأسباب التي أمرنا الله باتباعها، وتركها يعد مخالفة للشريعة، وهذا لا يتنافى تمامًا مع التوكل على الله بأنه وحده من بيده مقاليد الأمور ومآلها وبمشيئته يكتب الشفاء للمريض إن أراد، أو يؤخر عليه الأمر لحكمة منه وعظة، أو يبتليه ليهتدي.. فكلها مقادير إلهية في عباده لا يعلمها إلا هو سبحانه.

حكم التداوي

في الأصل يعد التداوي مشروعًا، وفقًا لما ورد في الأدلة النقلية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فضلًا عن مشروعيته التي تعزو إلى كونه ضروريـًا لحفظ النفس، وتلك من ضمن المقاصد السامية الكلية التي نادت بها الشريعة، في تلك الحالة يكون التداوي من الواجب على من يصاب بأذى في حالة تركه أو عجزه.

كما أنه يكون مندوبًا حال يترتب على تركه ضعف البدن، ومن المباح أن يتم التداوي في العموم حتى على خلاف الحالتين السابقتين، ولكن كما ذكرنا آنفًا ألا يكون فيما حرمه الله، حيث إن من شأن التداوي أن يكون مكروهًا حكمه في حال كان باستخدام فعل يؤدي إلى مضاعفات سيئة، لربما تعتبر أشد من السقم ذاته.

حقيقة التوكل على الله

عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: “لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ“، فالتوكل على الله من شيم المؤمنين، فالعبد لا يفعل شيئًا إلا وهو متوكل على الله على تمام اليقين بأن الله معينه، وأن كل شيء بإذنه ومقدره، حيث إن الكسب من العمل ليس هو سبب الرزق، إنما الله هو الرزاق، إلا أنه أمر العبد بالسعي حتى يحصل على هذا الرزق ويستحقه جراء عمله.

حيث من يظن أن التوكل على الله يعني ترك أسباب الكسب والأخذ بتدابير القلب والدعاء فقط فهو خاطئ لا يفهم حقيقة التوكل، فالشريعة لم تنص على ذلك.. إنما أشارت إلى أن التوكل محله القلب، أما البدن فله أن يسعى محتسبًا أسباب الرزق، وهذا لا ينافي التوكل على الله.

الفرق بين التوكل والتواكل

علمنا في جواب سؤال هل التداوي ينافي التوكل على الله، أن التوكل هو تفويض الأمر إلى الله، وتعلق القلب بمشيئته القادرة على تحقيق كل الخير ودفع كل مضرة، وقضاء الحاجات.. فكلما تمكن التوكل من قلب العبد كلما حقق المقصود منه.

كذلك لا يصح ترك الأخذ بالسبب بحجة التوكل، جنبًا إلى جنب مع عدم الركون إلى الأسباب وحدها، حيث إن خالق السبب وميسره قادر بجلالته على تعطيله، هذا لا يخالف حقيقة أن السعي في ذاته يعد من التوكل، وعدم السعي ما هو إلا اتكال أو تواكل.

حيث إن التواكل هو عدم الأخذ بالأسباب التي يسرها الله أمام عباده، ويكون بحجة التوكل وما هو منه في شيء، لأنه يتنافى مع العقيدة السامية.. لما فيه من الخمول والكسل وعدم الفهم البيّن لمقاصد الشريعة، فبالرغم من تقارب الكلمتين (التوكل والتواكل) إلا أن الفرق بينهما عظيم.

فبينما التوكل يدفع المرء إلى الاطمئنان لأن الله هو من يتولى شؤونه، فالتواكل يجعل صاحبه مستشعرًا الخوف على الدوام، لأنه ضعيف الإيمان، لا يمتلك الصبر والاحتمال ولا يدرك أن نقص الرزق نتاجًا لتخاذله، على عكس الحال من المتوكل على الله.. الذي يحمده في السراء والضراء.

عنيت الشريعة الإسلامية بالنواحي الصحية والنفسية للعباد، فأوجد الله الدواء لكل داء، ويسّر للعباد الأسباب الكافية التي تخول له تمام العافية بإذن الله تعالى.